يحتوي هذا الديوان على خماسيات شعرية للشاعر شربل بعيني، وكل خماسية تتألف من خمسة أشطر معبرة ومتماسكة

تقديم د. مصطفى الحلوة

 تقديم

خماسيّات حبّ"* شهادةٌ للمحكيةِ شعراً.. لا تقبلُ الدحض!

د. مصطفى الحلوة

رئيس الاتحاد الفلسفي العربي



مدخل/ الحب – العشق من "طوق الحمامة".. إلى "خماسيات حب". 

   "الحبُّ أوَّلُهُ هزل وآخرهُ جِدّ، دقّت معانيه لجلالتها عن أن تُوصف، فلا تُدركُ حقيقتُها إلاّ بالمعاناة (...) والحب- أعزّكَ الله- داءٌ عياء، وفيه الدواءُ منه، على قدرِ المعاناة، وسقامٌ مُستلذٌ، وعلّةٌ مُشتهاة (...) ولقد علمتُ فتىً من بعض معارفي، قد وَحَلَ في الحبّ وتورّط في حبائلهِ، وأضرَّ به الوجدُ، وأنصبَهُ الدنف (...) وما كان دعاؤه إلاّ بالوصل والتمكُّن ممّن يُحبّ، على عظيم بلائه وطويل همِّه، فما الظنُّ بسقيمٍ لا يُريدُ فَقْدَ سقمه؟! (...) وفي مثلِهِ اقول: واستلذُّ بلائي فيك يا أملي/ ولستُ عنك مدى الأيام انصرفُ/ إنْ قيل لي تتسلّى عن مودّتِهِ/ فما جوابي إلاّ اللامُ والألِفُ".

   هي شذراتٌ بيِّناتٌ، تدورُ حول توصيف الحبّ ورصد بعضٍ من أعراضِهِ- حُلوِها ومُرِّها- مُستعرضةً حالة شابٍ غاص في وحل الحب وعلق في شباكِهِ! وعلى رُغم حالتِهِ التعِسَة، إذْ يستبدُّ به الشوق ويُضنيه هجرُ الحبيبة، يدعو الله كي يعود عهدُ الوصال! كأننا بهذا العاشق، يرتضي لنفسه المزيد من عذاب الحب، فتكون حبيبتُهُ دواءَهُ، وهي أصل دائه! وإن قيل له: ستسلوها مع الأيام، كان الرفض جوابه! 

  هي شذراتٌ ، بتوقيع أحد كبار العلماء العرب القُدامى، ابن حزم الأندلسي القرطبي (994- 1064م)، اقتطفناها من مؤلَّفِهِ "طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاّف"، الذي يُرى إليه أحد أبرز المؤلفات/ المصادر، التي أنتجها الفكر العربي- كما العالمي- في مُقاربة أطروحة الحب والعشق، بل هو موسوعةٌ، لا بديل من الرجوع إليها لمن يبتغي البحث في العشق والتملِّي من أبعاده كافة! 

    وإذْ يُعرِّجُ ابن حزم، عبر فصول هذا الكتاب (عددها ثلاثون) على علامات الحب، فإننا نتخيَّرُ بعضها، لا بهدف التوسعة لهذا الكتاب واستعراض الآراء التي تضّمنها، بل لنُفيدَ منها في مقاربتنا أطروحة الحب لدى شربل بعيني، وفي استكناه جنة العشق والمتاهات التي يلجُها شاعرنا، بما يجعل العبور إلى بحثنا مؤسَّساً على مرتكزاتٍ صلبة، ذات سمات طاعنةٍ، في زمن البشرية!

   هكذا يغدو "طوق الحمامة" بوصلتنا التي نستعينها في الكشف عن المسائل التي طرقها البعيني، وهو يخوض معمعة العشق، على مدى خمسة عقود، مدجَّجاً بأشدّ أسلحة العشق فتكاً، ومُتفنناً في طريقة استعمالها!

   ولسوف يتحصّل لنا، في مقاربتنا أطروحتي العشق، لدى ابن حزم والبعيني أن النفس الإنسانية واحدة، والمشاعر متماثلة، والإنسان المفطور على الحب هو هو، على مرّ العصور.. يتغيَّر منه المظهر ويثبُتُ الجوهر.. تتبدّل القشور ويبقى  اللُباب! 

     أجل! للحبّ علامات، كما يرصدها العالم الأندلسي: "أوّلُها إدمانُ النظر، والعينُ بابُ النفسِ الشارع (أي المفتوح)، وهي المنقّبة عن سرائرها، والمعرّفة عن بواطنها (..)، ومنها الإسراع بالسير نحو المكان الذي يكونُ فيه (أي الحبيب)، والتعمُّد للقعودِ بقربه، والاستهانة بكل خَطْب جليل داعٍ إلى مفارقته (..) ومن علاماته ومشاهده الظاهرة لكل بصير: الانبساط الكثير الزائد في المكان الضيّق، والتضايق في المكان الواسع (...) والتعمُّد لمَسِّ اليد عند المحادثة ولمس ما أمكن من الأعضاء الظاهرة، وشرب فضلةِ ما أبقى المحبوبُ في الإناء (...) نجدُ المُحِبَّين، إذا تكافيا في المحبة وتأكدت بينهما تأكّداً شديداً، كثرَ تَهاجرهما بغير معنى وتضادهما في القولِ تعمُّداً (...) فلا تلبث أن تراهما قد عادا إلى أجمل الصُحبة، وأُهدِرت المعاتبة، وسقط الخلاف (...) والسهرُ من أعراض المحبين، وقد أكثر الشعراء في وصفِهِ، وحكوا أنهم رُعاة الكواكب وواصفو طولِ الليل (...) ومن أعراضه الجزع الشديد والحسرة (...) ومن علاماته أنك ترى المحبّ يُحبُّ أهل محبوبه (...) والبكاء من علامات المحب، ولكن يتفاضلون فيه، فمنهم غزير الدمع (...) ومنهم جَمُودُ العين، عديم الدمع (...) ويعرض في الحب سوءُ الظنّ واتهام كل كلمة من أحدهما وتوجيهها إلى غير وجهها، وهذا أصل العتاب لدى المحبين (...) ومن آياتِهِ مراعاة المحب لمحبوبه، وحفظه لكل ما يقع منه" .. وعن آليات عمل العشق وأدواته- ومن ابن حزم أيضاً- فإن "الحواس الأربع أبوابٌ إلى القلب ومنافذُ نحو النفس. والعين أبلغها وأصحّها دلالةً وأوعاها عملاً" .. كأننا بإبن حزم يتبنّى نظرية المعرفة، لدى الفيلسوف اليوناني أرسطو، فحواها: مَن لا يُحسُّ حِسّاً لا يعقلُ عقلاً!

     إنزياحاً بهذه الشذرات، بل المطالعة في العشق إلى "خماسيات حب"، نجدُنا بإزاء مطالعة، من لدن شاعرنا، لا تخرج عن الأطر العامة لما تطارحه ابن حزم، في "طوق الحمامة"، مع فروقات لا يُعتدُّ بها. وإذْ نُلملم من بعض "خماسياته" ما يُؤشِّرُ على الحب: تعريفاً وسماتٍ وتمظهراتٍ وتداعيات، نخلصُ إلى المشهديات الآتية: 

  -  قديماً قيل: "الجنون فنون"! وإذا كان العشق يُدرجُ تحت الجنون، فشاهدُنا أن كثيرين من الشعراء الذين عانوا بلاء الحب، عُرفوا بالشعراء المجانين، وقد امتلأت كتب الأدب العربي بحكاياتهم وسِيرهم، ورائدهم قيس بن الملوح الملقب بمجنون ليلى.. 

   في هذا المجال لا يخرج  شربل بعيني عن سُكَّة هذا التوصيف، إذْ كابدَ بعضاً من سكرات العشق وجنونه: "تأكَّدتْ إنّو الحبّْ نصُّو خْواتْ!" ... إثرَ مراجعة للعلاقة التي تربطه بحبيبتِهِ، يُعلن موت الحب، وقد تباعدت المسافات بينهما، وتبدّدت مشاويره واللقاءات، ولم يعُدْ ليأتي على ذكرها، بل راح إلى شطبها من ذاكرته! (خماسية: خوات).

   وإلى ذلك "الخواتْ"، فإنه قد يُفقدُ العاشق إحساسه، بل "يُسطّلُهُ"، معطّلاً قدرته على البوح، فلا ينبس ببنت شفة، لا كلاماً ولا غناءً، إذْ يُطلُّ عليه وجه محبوبته: "حابِبْ تاغنِّي.. بسّْ ما فيِّي/ صوتي إنسرَقْ.. لا تضحكي عليِّي/ لمّن قبالي نور وجِّكْ طلّْ/ ما قدرتْ قلِّكْ: يا صباحْ الفلّ/ ولا قدرتْ رندحلِكْ شي غنِّيهْ" (غنِّيه).

    شبيهٌ بحال شاعرنا (حاشاه!) ما يُحكى عمّا يمكن أن يحصل مع عريسٍ، "ليلة الدخلة"، إذْ تتعطل لديه قدرته الجنسية، حين تدهمه، ما تدعوه العامة، "فرحة" (أو تسطيلة)! ساعتها ليس له من علاجٍ سوى سوقه إلى أحد المشايخ/ المشعوذين، كي يفكَّ "فرحته" لقاء بدلٍ مالي، وتعود غريزته إلى وضعها الطبيعي!

    ولكي تغدو دُنيا المحبين، في أحسن حالاتها، لا بد للحبيب (الشاعر) أن يُثبتَ معمودية حبّه، بل إيمانه المتأجج، فيذوب فوق صدرِ الحبيبة!: "... وسْمِعِتْ صوتِكْ قال: يا عيوني/ الدنيي خرابْ بدونك ودوني/ قمة إيمانكْ فوق صدري تدوبْ" (توبه).

   الحبُّ لا يعدِلُهُ شيء! فأنْ يغفو الشاعر في حضن الحبيبة الدافئ، وتجهزُ شفاهها على شفاهه، فهو مالكٌ ثروة لا تُضاهيها كنوز الذهب: "لو خيّروني بين مال الكون/ وغفوه زغيره بحضنك الدافي/ المال رح بيروح.. إنْتي هونْ/ حَدِّكْ بشوفْ السما بلا لونْ/ كلّْ ما شفافِكْ تاكلْ شفافي" (إنتي هون).

   في هكذا أجواء حميمة، تغدو المحبوبة، في عيني شاعرنا، لحن أغنية ودموع عينيه.. وخارج أبجدية الشعر والحب لا تُقرأ الحبيبة!: ".. بالشعر صوتي لحنْ غنيّهْ/ وبالحبّْ إنتي دموع عينيِّي/ وغير هيكْ صعبِهْ تنقرا حروفك!" (مرجله).

    ولن يكون حبٌّ حقيقي، ولن تقوى أواصره ما لم يكن خصامٌ وزعلٌ بين الحبيبين! وإذْ لا تنفع أيْ لغة في استرضاء الحبيبة، فليس للشاعر سوى القبل يطبعها على خدّيها، فنِعمت من لغة!: "زعلتي.. وما عرفت كيف هدّيكي/ بأيّا لغات الأرض احكيكي/ بالعربي ما بتفهمي عليِّي/ وبالإنكليزي بعرفْ شويّهْ/ صفَّيت بالبوساتْ راضيكي!" (لغات الأرض).

   وعلى رُغم كل ألوان الخصام، لن تكونَ قطيعةٌ باتَّةٌ، فثمة رجعةٌ إلى الحبيبة، ولو علَّقت مشنقة الشاعر: ".. طيِّبْ.. قوليلي بسّْ شو بدِّكْ/ مهما بعِدتْ.. رَحْ إرجع لحدِّكْ/ تا تعلقي للقلب مشنقتو" (مشنقه).

   بإزاء هذا الموقف، ومن موقع الاعتزاز، فإن الحبيبة لا تستغرب ما يرتضيه الشاعر من سوء مصير، فهي تعرف أنه يعنيها، في كل ما باح به شعراً، وأنه لم يعشق سواها.. وتكريساً لهذا الحب، المستمكن منه، تستحلفه باسم الحب، كي يُعلّق صورتها في قلبه: ".. بحلّف بحبَّكْ.. كل شي بتألِّفو/ بحروف اسمي بسّْ عم بتغلَّفو/ وجوّاتْ قلبك صورتي عِلَّقتْ" (قالت).

   وإذا كان للحب فلسفته في مقاربة الزمن، فإن العُمر لا يُقاس بعدد السنين، بل بنبض القلب، الذي يُؤذنُ وحده بالحيوية والشباب. من هنا ترفض الحبيبة ما ذهب إليه شاعرنا، وهو ينعتُ نفسه "بالختيار"، فتدعوه إلى أن يُحبَّها ويُقلع عن ترداد "معزوفته" الممجوجة: "لا تعشقي ختيار!.. قلتيلي!.. / بتضلّْ تحكيلي هـَ المتيلِهْ؟!/ بحبَّكْ أنا.. والعمرْ دقةْ قلبْ/ ضحكاتٌ حلوه مع قصيدة حبّْ/ وْلَكْ حِبّني.. ولا تربح جْميلِهْ" (متيله).

    في مقلب آخر، خارج نطاق الحب، بصيغتِهِ المتعفِّفة، وترجمةً "عملانية" له: تقبيلاً ودغدغةً وضمّاً وشمّاً، يجبهُ شاعرنا حبيبته بحجةٍ "مقنعة"، إذْ لولا التواصل جنسياً بين أبويها، ما كانت لتُبصر النور!: ".. الحب بوسِه، ودغدغهْ، وعناقْ/ ولو ما أبوكي للجنس مشتاقْ/ كنتي بقيتي بـِ بطن امِّك" (جنس).

   ولعلّ في إشهار الحب وإعلانه على الملأ ما يضعُ الأمور في نصابها الصحيح، كون المحبوبة هي أجمل ما في حياته: ".. صرتي بحياتي أجمل متيلهْ/ عم أقرِّيا للناس.. صلّيلي/ تا ضلّْ إقرا.. وإنغرِمْ فيكي" (مين إنتي؟).

   واستتباعاً، فإن الحب ينفحُ الشاعر بهجةً وسعادةً ويزيدُ سنيّ عمره: "ضلّي اضحكي تا تزيد إيّامي/ بيكفِّي القلب بـ شوفتِكْ مسرورْ/ وعمْ يفرش الطرقات أحلى زهورْ" (ضلِّي ضحكي).

   وإلى ذلك، فإن الحبَّ يمنح شاعرنا شجاعةً، فيُبادرُ، غير هيّابٍ، إلى رؤيتها متى أراد، ولا أحدَ بقادرٍ على منعه!: "ما في حدا يتمرجَلْ عليِّي/ ساعةْ ما بدّي شوفِكْ بشوفِكْ" (مرجَله).

   انطلاقاً من امتلاك المحب (الشاعر) هذه الشجاعة، مشفوعةً بأريحية لافتة، فهو يُضحِّي في سبيل المحبوبة بالغالي والنفيس، وهي ما فتئت مُتربعةً فوق الصدر وإلى جانب القلب.. فأعظِمْ من مقامٍ رفيع: ".. كل شي بيرخَصْ.. بسّْ تا تكوني/ فوق الصدر، حدّ القلب، قونِهْ/ وقدَّملِكْ بهـ العيد، عينيّيِ!" (عيديِّهْ).

   وإلى العينين، تطلبهما الحبيبة، فلها القلبُ أيضاً وما بقي من عمره! : "كيف بدِّي كيفْ إرضيكي/ وكلّْ السعاده معلّقَهْ فيكي/ بقدِّملِكْ العينين.. بتقولي:/ بدِّي القلب.. جوّا القلب جُولي/ وهللّي بقي من العمر إعطيكي" (بدِّي القلب).

   في غمرةِ سعادة المحبوبة، وإذْ "يُزكزكُ" الشاعر خصرها، فتصيح: "من الضحك رَحْ موتْ"، فيُجيب: "بقلّك أنا: قلبي إلك تابوتْ/ من دونك الدقّات ما بتمشي!.." هكذا، هي التي تُوقِّعُ نبضات قلبه، وتُبقيه على قيد الحياة! (زكزكْه).

   وإذْ يتجادل الحب والإيمان، فثمة جدلُ الحب/ السلام، ذلك أن الحكّام الفاسدين، عديمي الضمير والقلب، لو عاشوا نعيم الحب، ما كانوا ليسلكوا طريق الإجرام، بحق شعوبهم: "..حكّام ما عندن ضميرْ وقلبْ/ لو متلنا عاشوا بنعيم الحب/ لا أجرموا.. ولا شرّدوا عيالو" (نعيم الحب).. فالحب، ببعده الإنساني الشامل، يعصم صاحبه من كل زلل!

   وعن جدلٍ آخر، لا يقل أهمية، حين يتناوب مسقط الشاعر والحبيبة الأدوار على قلبه، كي يسكناه ويسلبا منه عينيه! ولا عجب، فكلاهما نور من الله قُذِفَ في صدره!: "مجدليا.. كيف رح قلّلا/ إنّي انغرمتْ ببنتْ مجنونِه/ سكنتْ بـِ قلبي وسرقت عيوني/ هاي ضيعتي، يا بنت، شو بجلاّ/ إنتي وهيي نورْ مِنْ أللهْ" (مجدليا).

   مهما صار، ومهما تتقلَّب الأحوال، ستبقى الحبيبة عنواناً كبيراً من عناوين شعره.. ستبقى ساكنةً خياله، ومالكةً عليه قلبه والأحاسيس... وهي باقيةٌ زهرةً معلّقةً على باب داره، كلما دخله ترتسمُ أمام ناظريه: "لا تفكّري رَحْ تنتهي الأشعارْ/ وما عُودْ إتغزَّلْ بـِ عينيكي/ بتبقي معي.. كيف ما  خيالي دارْ/ ورحْ إرسمكْ زهره عَ بابْ الدارْ/ كلّْ ما مرقِتْ.. إتفرَّجْ عليكي" (زهره).

" خماسيات حب"، لوناً شعرياً، وموقع الديوان في مسيرة البعيني العشقية!

مائةٌ وثلاث وخمسون "خماسية"، تنتمي إلى فن الغزل، بشقَّيهِ: المتعفِّف المشوب بشيء من روحانية، والحسِّي الذي ينزع، في بعضٍ من محطات، إلى الشهوانية الشبقية، بمنسوب ليس عالي الوتيرة! 

   إذْ نتتبَّعُ مسيرة شاعرنا، في فن الغزل وفي المرأة، على مدى اثنين وخمسين عاماً، تستوقفنا ثلاث محطاتٍ، أُولاهما، استُهلت في العام 1968، مع "مراهقه"، الديوان الصارخ جنسانيةً وإغراقاً في الشبقية، حتى حدود الفحش - وما ذلك إلا قولُ شاعر "والشعراء يتَّبعُهُم الغاوون، ألم ترَ أنّهم في كل وادٍ يهيمون، وأنَّهم يقولون ما لا يفعلون " (قرآن كريم، سورة الشعراء: 227) - عبوراً إلى ثانية هذه المحطات، مع ديوانه الرائع "معزوفة حب" (1989)، حيث كان إرعواءٌ عن الحميّة الشبقية، مع هدوء مشهود، على جبهةِ عاطفته المشبوبة، إلى جنوح نحو صوفية نُسكية، أضفت ابعاداً من قداسة على الحب وعلى المرأة!.. وانتهاءً بالمحطة الثالثة، مع "خماسيات حب"، الذي نُظّمت قصائده بين عامي 2018 و2020، ولتترجّح هذه القصائد/الخماسيات بين الحب المتعفّف – كما أسلفنا- وبين غزلٍ "متفلّت"، بحدودٍ مقبولة، مع استدخال موضوعات، من وحي العصر وإنجازاته، متمثلةً في جدل الحب ووسائل التواصل الاجتماعي (الفايس بوك والواتساب)، والتوقف مليّاً عند الزمن الكوروني (عشر قصائد/ خماسيات)، الذي تعيش البشرية ويلاته، وكأننا بإزاء حرب عالمية ثالثة ذات سمة بيولوجية!.. كل أولئك يُضفي راهنيةً على النتاج الأدبي، لدى شاعرنا، إلى حداثية مطلوبة، فالأدب هو ابن بيئتِه وعصره، يتفاعل معهما، ويواكبهما على جميع الصُعُد.

   لقد كان للكاتب ميشال حديِّد، الذي قدَّمَ لـِ "مراهقة" (الطبعة الثالثة 1987)، أن يقبض على السِمة الفارقة لهذا الديوان، فذهب إلى القول: "إن الشاعر يتفجّر غرائزياً، ويسترسل في إنزلاقه وراء شهواته العنيفة، حتى يُعلنَ المرأة إلهاً من إثارة ولهوٍ ومجون"، وليُضيف: "ليس في مراهقة أي أثر للحب، ليس فيه سوى الغزل الإباحي، الغزل الجنسي الجارف (..) مراهق يكتب مراهقاتِهِ ومغامراتِهِ الغزلية، بلا حياءٍ أو خوف أو تلعثُم!".

   في مواجهة هذا الديوان، بما احتواه، كان للنقاد والمتزمتين، اجتماعياً ودينياً، أن يرذلوه، إذْ "اعتبروه تجاوزاً خطيراً للقيم الاجتماعية السائدة، وتهديداً مباشراً للجيل الجديد. وقد روّج هؤلاء النقاد لهذا الكتاب، من حيث لا يدرون!"

   إشارةٌ إلى أن الكاتب "حديِّد" يرى أن هذا اللون من الغزل الإباحي، الذي هجره شاعرنا، منذ زمن طويل- كان قد مضى على الطبعة الأولى تسع عشرة سنة- يُشكِّلُ مرحلة هامة من مسيرته الشعرية الطويلة.

   على رغم هجر هذا اللون من الشعر، فإن البعيني، حسبما تحصَّلَ لنا، ما فتئ يحنُّ إلى ذلك الديوان، الذي يرى إليه "بكر أولاده!"..، كما يتوقُ إلى تلك المرحلة المتأججة حيويةً، من مطلع شبابه، فها هو في 25 تموز 2018، وبدعوة من "لقاء الأربعاء"، يحتفل باليوبيل الذهبي لـِ"مراهقة" (1968- 2018). ومما يُؤشِّر على ذلك الحنين الجارف، تلك القصيدة العصماء، التي ألقاها في الاحتفال المشهود: ".. ولِكْ بعدني عايشْ على التذكار.." و"خمسين سنه يا مراهقه/ مرقت كأنّا حُلْم/ (...)/ لا تضحِكْ عليّي/ يا بكر اولادي" (من قصيدة عُمر). ومن قصيدة "ختيار"، التي ضمَّتها الطبعة الجديدة للديوان (2018): "ومِتْلْ الفراشِهْ انتحِرْ بالنارْ/ ختيارْ، يا شربِلْ، صِرتْ ختيارْ!".

   وإذْ نتوقّف عند المحطة الثانية "معزوفة حب" – بطبعتها الأولى 1989- علماً أنها طُبعت مرتين أخريين (2010 و 2016)، فقد راح شربل بعيني يتجّه صوفياً، "مُعربشاً نحو الله"، على ما يقول الكاتب جوزاف بو ملحم، في تصديره الطبعة الأولى.. كما راح "ينقر على أوتار القلب، وعروق التراب المشغول من حنايا الضلوع". وفي موقعةٍ لهذا الديوان، يتساءل بو ملحم: "أهي جهلةُ الأربعين مقبلة باكراً؟ أم أن الشعر دار دورته الأولى، فجاءت (معزوفة حب) بكر المواسم الآتية، تماماً كما كانت (مراهقة) بكر المواسم الماضية؟"

   بخلاف "مراهقه"، التي سارت على خط واحد، وهي تقطُرُ قصائدها نحو الشهوانية الشبقية، فإن شاعرنا، في "معزوفة حب": "لا يعزف على وتر واحد، فهو مرة شديد الإباحية، برّيّ الغرام (..) وهو مرة أخرى رهباني الهوى، نُسكي اللواعج!".

   في رصدِ "بو ملحم" تلك الخاصية البعينية بشأن المرأة- وهي ظاهرة، كما نراها، تنسحبُ على جميع محبوباته وفي سائر دواوينه- أن "أجمل ما في شعره أن المرأة عنده مرأة، أفلتها من نظرة الرجل الجاهلي"، فهي، والقول له: ".. وتبقى المرأة عنده، في قصائده الطوباوية والماجنة على السواء، نهر طهر وشلاّل عاطفة. لا بل هي أطهرُ من الكتب المقدّسَة".

   وإذا كان يُسجَّل للبعيني نأيُهُ بالمرأة عن خط الجاهليين ومن تبعهم من المقلدين، فإن هذه الخاصية تجمعه مع ابن حزم، العالم المتنوّر (الفاصل الزمني بين الاثنين ما يزيد على ألف عام!)، الذي يُعلن في مقدمة "طوق الحمامة" بأنه سَيُعرض عما اختطّه شعراء الجاهلية في المرأة: ".. ودعني من أخيار الأعراب المتقدمين، فسبيلهم غيرُ سبيلنا، وقد كثُرت الأخبار عنهم، وما مذهبي أن أنضي (أركب) مطيّة سواي ولا أتحلّى بحليٍ مُستعار".

" خماسيات حب".. عندما يلجُ البعيني جنّة العشق.. والمتاهات! 

   في إكبابنا على "خماسيات حب"، حِرصنا على استعراض الخماسيات جميعها، والتمثُّل بعددٍ كبير منها، مما يمنح رؤيتنا صُدقيةً، ولا نُغادر أي تفصيل "غير مملّ"، قد يخدمُ المقاربة التي نعكفُ عليها.

   في القبض على أهم العناوين التي تُؤشّر على مسار شاعرنا، فهو بدخوله عالم المرأة المعشوقة، ولج جنان هذا العالم الغنّاء، كما دَلَفَ إلى متاهاتِهِ، فطفق يتذوّق حلو تلك الجنان، ويتجرّع مرّ المتاهات!.. كانت طريقه مفروشةً بأجمل الورود وأعطرها شذىً، ولكن دون الورود الأشواك.. بل دون جنانِهِ جلجلةٌ من الآلام والدموع والقلق والهواجس!

   وإذْ نُغادر هذا العنوان/البوصلة، إلى مُندرجاتِهِ، نتوقف عند الآتي من المحطات:

أ- في الاعتراف بالحب والجهر به أمام الملأ! 

"   ربما كان من اسباب الكشف (أي الكشف عن الحب) غلبةُ الحبّ وتسوُّر الجهر على الحياء (...) وهذا من أبعد غايات العشق وأقوى تحكّمه على العقل".

   ذلك ما ذهب إليه ابن حزم، بإزاء التحدّي الذي يُواجهه المحب، لجهة الجهر بعشقه، وبجهر محبوبته بهذا العشق. وقد أردف ابن حزم، دعماً لرؤيته هذه، أنه قرأ في بعض أخبار الأعراب "أن نساءهم لا يقنعن ولا يصدّقنَ عشق عاشق لهن، حتى يُشتهر ويكشف حبه، ويُجاهر ويُعلن ويُنوِّه بذكرهن".

   هكذا، كان لشربل بعيني أن يُواجه هذا التحدّي، فراح، غير هيّاب، يُعلن حبه جهراً، لا يُقيم اعتباراً لأهل محبوبته، إذا ما وقفوا في طريق حبهما، لا سيما الأم المتشدِّدة! 

   فهو، إذْ يبعثُ برسالة إلى الأم، عَبْرَ ابنتها، يُفهمها "بالقلم العريض"، أنه لن يرتدَّ عن حبها، ولها أن "تُبلِّط الدنيا"!: "..مش عارِفهْ حبّي أنا عن جدّ/ قوليلها عنِّكْ ما رَحْ إرتدّْ/ فيها تبلِّطْ هـ الدني كلاّ" (غضب).

   هذه الأم "الرابوق"- إذا جاز القول- تُشكِّل عقبة كأداء في طريق حبه، فهي تُلازم ابنتها، حين يلتقيها، مما يحرم شاعرنا الشمّ والضمّ: "حدَّ منِّك حطِّتْ الكرسي/ (...) ع طول حَدِّكْ قاعِدهْ إمِّكْ/ وكيف بدِّي شمِّك وضمِّك" (مرسه).

   في موقفٍ غير ودِّي، من هذه الأم المتعنّتة، التي تقف في درب حبّهما مُعرقلةً مساره، يدعوها إلى أن تُسلِّم به وأن تبيعه "سكوتها": "لازم شوف الضحكه بتمِّكْ/ وترضى وتسكتْ عنّي إمِّك/ إمِّك عم توقف بـ دربِك" (إمِّكْ).

   وفي تحدٍّ سافر، يدعو محبوبته إلى عدم الخوف من الناس، فهو راغبٌ بتقبيلها، في وضح النهار، كما يرغب في معاقرة خمرة ريقها، فتصبّ له ألف كاس وكأس!: "ضوِّي اللمبهْ لا تخافي الناسْ/ عَ الضوّْ تمِّكْ حابُّو ينباسْ/ إنتي إلي ويصيرْ شو ما يصيرْ!" (ريقك خمر).

   كما طفق يدعو حبيبته إلى أن لا تخشى في العشق لومة لائم!: "وقفتي معي قدّام بابْ البيتْ/ وما عزمتيني ع نقطة مي/ خفتي الحكي.. من حكيكْ إنسِمَّيْتْ/ ومن خوفك إلـ من دون سببْ جنّيتْ/ رحْ إقطعْ لساناتْ أهلْ الحيّْ" (خوف).. فهو، بتعريضِهِ بذلك الخوف الذي حلّ بها، مخافة التشهير من أهل الحي، والتهديد بقطع ألسنتهم.. كلْ أولئك يُشكّل دعوة لها إلى إطِّراح خوفها، فتبادر إلى الجهر بحبها له!

   في هذا المجال، يدعو شاعرنا إلى رفع الصوت عالياً، ومغادرة الخجل، وعدم التهرّب من حبها، فيحضنُ خصرها سرّاً.. بل يدعوها إلى أن تبقى على طبيعتها، إذْ مهما حاولتِ التستُّر، فإن أمر حبها سيُفتضح، عاجلاً أم آجلاً: "ليش بين الناس حكيك هَمسْ/ وبتخجلي.. وبتهربي من اللمسْ/ بالسِّرْ إيدي حاضنة خصركْ/ لا تمثّلي .. رحْ ينفضحْ أمرِكْ/ كذبِهْ زغيره ما بتحجبْ شمس" ( لا تمثَّلي).

   في موقف حاسمٍ، يدعوها إلى إعلان حبها له، بصيغة أقرب ما تكون إلى "الاعتراف"، ولتشفع ذلك بالدعاء له بطول العمر وبمزيدٍ من السعادة: "قُولي: أنا بحبّو، أنا بريدو/ عمرو سعاده ربّنا يزيدو/ محظوظ هالشبّ اللي حبّيتي" (محظوظ).

   وفي السياق عينه، فإن المطلوب من الحبيبة أن تكون أكثر من شاعرنا بوحاً بحبها.. فهو يُسرُّ، إذْ تهمسُ في أذنه، بأنه حبيب الروح: "بتمشي.. وأنا بمشي معِكْ/ بتوشوشيني.. بِسْمَعِكْ:/ إنتَ حبيب الروح" ( حبيب الروح).

   عَبْرَ نرجسية بادية، يطلبُ شاعرنا إلى محبوبتهِ أن تُغمض عينيها، وأن تحلم وتتمتم، مُفدِّيةً إياه بروحها، وأن يرعاه الله ويحفظه، ولتُعلِن أن الدُنيا لا معنى لها من دونه!: "غمِّضي عيونك.. تاشوفِكْ نايمه/ وعَمْ تحلمي وتمتمي: روحي فِداكْ/ تايحفظكْ الله، يا شربل، صايمِهْ/ ومحبتك بالقلبْ فرحهْ دايمهْ/ الدنيا شو فيها قُولْ لو كانت بلاك"(صايمه).

   واستزادةً من تلك المواقف، حيث جهر الحبيبة بعشقها، وحيث لا تكون السعادة إلاّ بجانبهِ، وحيث الغرق فيه حتى أُذنيها، فلنسمعها ممجَّدةً! : "وقلتي: السعادة كلّها حدَّكْ/ يا حبيبْ القلبْ مينْ قدَّك/ وبتغرقي فيِّي على مهلك" (حبيب القلب).

ب- في ألوان المعاناة.. ولوعة الاشتياق!. 

   (سبحانه تعالى).. القاهر الذي قهر الرجال بمحبتهن (أي محبة النساء)، وإليهنّ الاستكان (أي الخضوع) والارتكان (أي الاعتماد) (...) المذلّ ، الذي أذَلَّ قلوب العاشقين بالفُرقة (الارتحال)، وأحرق كبودهم بنار الوجد، وقدّر عليهم بالذلّ والهوان والمسكنة بالتخضُّع شوقاً إلى الوصال".

   هي المعاناة، بألوانها وأعراضها، لعلها الأشدّ وطأةً على المحبّ، ولتشغَلَ المساحة الأوسع من بوحِهِ! هكذا، على غرار سائر الشعراء، الذين عانوا الأمرّين، في علاقتهم مع محبوباتهم، ها هو شاعرنا، يفرد للمسألة حوالي عشرين "خماسية"، يُعبِّر فيها عن وجعه، جرّاء ما يلقى من عَسَفِ المحبوبة، تتمثَّلُ في تصرّفاتٍ غير سويَّة.. أو تلجأ إلى هُجرانه، أو تُبارح إلى بلدٍ آخر، أو تعودُ من حيث أتت... كل أولئك يُدخل التعاسة إلى قلبه، ويجعله نهباً للهواجس والشكوك!

   لعل، في رأس المعاناة، تلك القطيعة بينهما، فلا يقدر الشاعر أن يلتقيها، فيُكابد حُرقة الاشتياق!.. فهو قد حاول عبثاً: كتب الشعر، فكان غير ذي نفع!. 

    جُنَّ جنونه، فكسَّر القلم ورماه طُعماً للنار، وطفق يُحرق أوراقه: "معقولْ نحنا هيكْ رحْ نبقى/ من دون لقا.. وبقلوبنا الحُرقه؟" (بلَّشتّْ جِنّْ).

   إذْ تُغادِرُ الحبيبة إلى بلدٍ آخر، دونَهُ البحر، يأسى الشاعر لارتحالها، فيتمنّى لو أنه يستطيع إدراكها، فيرتمي على بابها، ويفرش لها زنده لتنام عليه!.. ولكن من أسفٍ ، فهو يخاف غدر البحر: "يا ريتْ فيني أوصَلْ لعندِكْ/ واشلْحْ عَ بابِكْ كومةْ سنيني/ تنامي عَ زندي وتفرشي زندِكْ/ (..) بسّْ البحر غدّارْ ما فيني" (يا ريت).

   وإذا كان هجرُ الديار، أو البين، بحسب ابن حزم، هو ما "أبكى الشعراء على المعاهد (الأطلال)، (فهم) أدرّوا على الرسوم الدموع، وسقوا الديار ماء الشوق، وتذكّروا ما قد سلف لهم فيها، فأعولوا وانتحبوا، وأحيتْ الآثار دفين شوقهم، فناحوا وبكوا"... وبإزاء هذا الواقع التعس، كان "لا بد من أن يؤول إلى حدّ السقام والضنى والنحول، وربما أضجعهُ ذلك (أي ألزمه فراش المرض".

   في هذا المجال، يتمنّى شاعرنا لو أنه يستطيع إعادة المحبوبة من السفر، فهي تركت وراءها صورة تجمعهما، فيعيش  على الذكرى، ويتلمّس خيالها الذي يغشاه! ولو قُدِّر له رؤيتها من جديد لأستوضحها ما تُريد، فيُجدِّد العهد الذي مضى: "يا ريت فيّي من السفرْ ردِّكْ/ وقلّكْ: قوليلي بسّْ شو بدّك/ تا جدِّد الصورهْ المنسِّيه" (صوره).

   وإذْ سافرت المحبوبة، قاصدةً بيروت، فقد عمّ الظلامُ (سيدني)، وطفقت الصورة التي تركتها لديه، تُبدي حزنها عليه، وحسبت أنه سيموت!.. وعلى رُغم هذه المعاناة، تبقى المحبوبة في مدارِ عينيه، وفي القلب بيروت التي تحتويها!: "سيدني انطفت وتعتَّمتْ البيوت/ (...) بالعين إنتي... وبالقلبْ بيروت" (بيروت).

   وبارتحال المحبوبة إلى آخر الكون، فقد ذبُل الورد، الذي تركته  عنده، وكان للزهر أن يفقد عطره، ويتبدّد لونُه: "ما ضلّ عندي ورد تا شمّو" (عطر).

   عن البعاد، عن الاشتياق، وما يُخلّفان من ألم، لدى شاعرنا، فقد عبَّر عن شوقه لفمها، لعينيها، للخدود، لمسمعها.. ومستكملاً كل حواسِها: "لإيدين صاروا مع إيديِّي رفاقْ"، وليصرخ بأعلى الصوت "وْلَكْ صدقيني البعد ما بينطاقْ" (الوداع).

    في مجال آخر، من مجالات المعاناة، يبوح الشاعر بقهره، وقد غدا كناطورِ جرار العسل، ولكنه محرومٌ من تذوّقِهِ!: "يا نحلتي، قلبي أنا مقهور/ واقف على جرار العسل ناطور/ ومحروم إنّي دوقْ عسلاتِك" (نحله).

   في مشهدية من مشهديات هذه المعاناة، وقد تجاوز الستين، راح إلى "جهلة" هذه المرحلة من العُمر، ولكن لم تعُدْ لتُفيده الخلوات بشيء.. كما كان يصدمُه ما يجري على لسان بعض النسوة من كلامٍ، يُبدينَ فيه شفقة، فينكأن جراح وجعه، وليس له إلاّ العض على هذه الجراح: "بجرِّب تا رجِّعْ من شبابي شوي/ بِسْمَعْ: المسكين كِبْرِ خُطَيْ/ بصبغ الشيبهْ.. وبْبلَعْ السكّينْ" (جهلة الستين).

   وكم يأسى شاعرنا، إذْ يرى الشيبَ يدهم شعره، في حين أن الليل يستمدُّ سواده من شعر المحبوبة! وكيف له أن يقرَّ عيناً، وهو يرى الربيع، يزهرُ في عمرها، بينما تشرين يُذبلُ عمره!.. ولكن سَرعان ما يستدرك، فيطمئن المحبوبة بأنه، على رُغم شيخوخته، فهو قادرٌ على أن يُسنَدَ جبلاً (راجع خُماسية: فصل الربيع).

   في إطار تسفيه شاعريته، فقد آذاه ذلك من إحداهن، وهو الذي كتب لعينيها أجمل الأغنيات!: "حَكْيِكْ إذيني كتيرْ يا فلانِه/ قلتي بأنّي شاعر ومشعور/ وشعري ع طول مفشكلْ ومكسورْ/ وبعدي لهلقّ رابِط لساني" (فلانه).

   كما السيد المسيح- وعُذراً من التشبيه!- يعبُرُ شاعرنا جلجلة الحب، علّه يُحقِّقُ مراده، فإذا  بالمحبوبة الجميلة تكوي قلبه، وتزيده اشتعالاً!  وبسادية مُتشفِّية: "وبتفرحي بآهات تنهيدي/ وبتتركيني ع الدرب مصلوب" (مصلوب).

   وإذْ يُؤلِمُ شاعرَنا كذِبُ المحبوبة ويُبكيه، فلِكونها تُخلِفُ المواعيد، وتدّعي، بل تُقسِمُ بحياته أنها نسيت، وهي مُتناسيةٌ مُتجاهلة! : "نطرتِكْ بـِ قهوة، صاحبا صيني/ حلفتي بحياتي: الموعد نسيتي/ لا تحلفيلي.. ولا تحبّيني/ صرتي بكذبِك عَمْ تبكّيني" (لا تحلفي).

   من منطلق " شرّ البليّة ما يُضحكُ!" ، قد تبدُرُ من العاشق الولهان تصرفاتٌ ذات خفّة، كأن يمضي نهاره أو بعض ليله، وهو يكمن للمحبوبة تحت شباكها أو على مرمى أمتار من بيتها، علّها تُطلّ فيحظى منها بنظرة أو غمزة!

   هكذا، لم يبرأْ شاعرنا من هذه الممارسات، فإذا به، كطفلٍ صغير، ينتظرها، قاطعاً عليها الدرب: "تا إلمحِكْ عَمْ ضيِّعْ نهاري/ ناطر عَ دربك متلْ طفلْ زغير"، وهو! إذْ يفعل، فلأنه "خايفْ ع بعدِكْ تنطفي ناري/ وتدبَلْ مع الأيام أزهاري" (نطره).

   وفي مشهدية مماثلة، يقف تحت شباكها "بطولِهِ"،  علّها تفتح شبّاكها المغلق، فيتبادلان النظرات!: "كِيْفْ بَدِّي إلمحِكْ قولي/ وشبّاكِكْ مسكَّرْ يا مسطولِهْ؟/ روحي افتحي الشبّاك واستنِّي/ تجيكي إشاره تخبَّرِكْ إنِّي/ واقفْ تحت شباكِك بطولي" (إشاره).

   تعقيب: حين سلكنا وأقراننا طريق العشق، وعانينا ما عانينا، من الصدّ.. بدرت منّا تصرّفات "صبيانية"، ولطالما كانت تدور بخلدنا تلك العبارة المشتهرة: "يا لطيف ع الحبّ شو بيذِلّْ!". بل كان بعض من عبروا هذه التجربة، يُردِّد على مسامعنا عبارةً أشدّ هُزءاً: "يلّلي إبتليتْ بالغرام بزِّقْ على حالك!".

ج- في التشكّي ... "شيمتُها الغدرُ"!.

   توازياً مع معاناة شاعرنا، وما يكابد من لوعة الاشتياق وحُرقته، فإنه من الطبيعي أن يكون دائم التشكِّي من محبوبتِهِ، التي لا ترعى عهد الحب، فتعمد إلى تصرّفات غير سويَّة، تزرع الشك في نفسه، وتستثير لديه الهواجس!. 

   فمن خُماسية "خيّال"، يذهب إلى أنها تُعرض عنه، ولا تُعيرُهُ اهتماماً – وهو ذلك الخيّال الواقف أمامها "سنكه طقْ!- بل إنها تلتفتُ إلى سواه، مما يُفاقم ألمه، ولتمطِر المحبوب المستجدّ بفيضٍ من ضحكاتها والابتسامات: "وخيّال واقف حدِّكْ بطولو/ كرمال عينِك رقّصْ خيولو/ وانتي لغيرو بتشلحي الضحكاتْ!" 

   وكمْ يُؤلِمُ شاعرَنا حين يُحاول تقبيلَها، فتُعرضُ عنه، وتتركه من  دون التلفُّت إليه، مُعلّلاً ذلك بغنجها ودلالها، ولكنه مُدركٌ، في قرارته، أن الأمر ليس كذلك: "جرّبتْ بوسِكْ.. بسّْ ما رضيتي/ قلبي بيقللّي: البنت غنّوجي / كذّبت حالي وقت ما مشيتي/ ومن دون ما تطّلعي قفيتي" (قهّاره).

   وإذْ يقتُلُهُ حبُّها ويفقده عقله، فلأنها تركته وحيداً غارقاً في همومه!  لقد تبدَّلت نظرته إليها.. كان يراها شمساً تعلو الغيوم، وملكة جمال، توّجتها النجوم، وإذا به اليوم يراها بنتاً كاذبة، جرّاء ما بدر منها : "كِنتْ شوفِك شمسْ فوق غيومْ/ ملكةْ جمال متوّجهْ بنجومْ/ صرتْ شوفِكْ بنت كِذّابِه" (حظّ).

   في مسار التشكّي، الذي دأب عليه الشاعر، يرقى بفعل محبوبتِهِ إلى حدّ الجريمة! فقد حرص على أن يقدم لها باقات الزهر، تعبيراً عن حُبّه الجارف، فإذا بها لا تردّ التحية بمثلها، فتُحرق ما كتب لها من شعر، وتطرِح الزهر الذي أهداها، فيذبُل.. كأننا بها لم تشفِ غليلها من الغدرِ بهّ!: "تغزّلتْ فيكي كتير.. ما سألتي/ شلحت الزهر كوماتْ قدّامِكْ/ أكبر جريمه بالهوى عملتي/ حرقتي الشعر والزهر دبّلتي/ وما تِعْبِتْ من الغدْر إيّامِكْ" (جريمه).

   ومن وجوه غدرها هروبها منه، تاركةً القلب المحبّ والصدر الذي لطالما احتواها!: "ليش حتى تهربي منّي/ وشوفِك بـِ عيني بنت غدّاره/ تركتي القلب والصدر والجنِّه/ وكل همِّك تبعدي عنِّي" (بُعد).

   كل هذه السلوكيات السيئة، التي تقترف، من غدرٍ وكذبٍ، وصولاً إلى "النطنطة" من حضن شاب إلى آخر.. ما كانت لتقوم بها لو لم تكن، بحسب الشاعر، ذات قلب قاس كالحجر!. 

   وإذْ يدينُ تصرّفاتها المُشينة هذه، ينصحُ لها بأن تُقلع عنها، فهي لن تصل إلى مُبتغاها، بمعنى أن سبيل الزواج لن يُعبَّدَ أمامها!: "يا قاسيه.. لو كان عندِك قلبْ/ كان القلبْ دلِّك عَ أحبابِكْ/ من شبّ بتنطِّي لـ تاني شبّْ/ لا تفكّري بتوصّلِكْ هـَ الدربْ/ ما بتوصلي.. ولا بينفتِحْ بابِكْ" ( يا قاسيه).

   وإذْ تبدو كما الصخر، لا حرارة تُحرِّك الإحساس لديها، ولا استجابة، لمن يُرضيها، ولو كان الإله، يخلصُ شاعرنا إلى أنّ من يُغرم بها، يعدُّ مجنوناً بحق! كأننا به يدين علاقتهما الغرامية الخائبة: "مجنون هللي بينغرم فيكي/ متل الصخر بدّو يلاقيكي/ ما في حرارة تحرِّك الإحساس/ وكيف يرضيكي إبنْ هـَ الناسْ/ وألله دخيلو صعب يرضيكي" (مجنون).

د- في الشكوك العاصفة.. والغيرة القاتلة!

   ما كان شاعرنا ليتردّى في مهاوي العذاب.. وما كان ليُشارف حدّ الجنون لولا تلك الشكوك التي كانت تعصف به، والغيرة التي تتأكّلُهُ!

   هكذا غدا نهباً للوساوس، تهبُّ عليه من كل حدبٍ وصوب!

   ولم يكن شاعرنا ليُخفي غيرته "المرضيَّة"، فهو يعترف بأنه يغار من ضحكاتها، من رنة هاتفها الخلوي، من مشيتها وظلّها، من ثيابها التي تلتصق، بكامل جسدها.. فيُخيَّل إليه أن هذه الثياب تُعمِلُ فيها تقبيلاً! : "بغار، أيوه، بغار عَمْ قلِّكْ/ من ضحكتِكْ.. من رنة الموبايل/ من مشية اللي بيلحقا ظلِّكْ/ من قماشْ عم بـِ بوسِّك كِلّكْ/ وواقف أنا قبالك ما عندي حَيلْ" (بغار).

   وإذْ يسألها عن تأخّرها أو مماطلتها في اتخاذ قرار حاسم حول ارتباطهما رسمياً (الزواج)، وهو ما فتئ ينتظر ذلك منذ زمن.. فإن هذه المماطلة تُثير ريبته، فلربّما هي مُنشغلةٌ عنه بحبٍّ جديد؟.. ولو صحّ ذلك منها، فهو سيُفجِّر سيوله ويجرفها من هذه الدُنيا! : "كتير صرلي ناطرِك.. قولي/ شو مأخَّرِكْ؟ رحْ إحلفْ بألله/ ن كنتي بحبّ جديدْ مشغولِهْ/ بطيِّر جنوني.. بفجِّر سيولي/ تا إجرفكْ من هـ الدني كلاّ!" (قولي).

   وإذْ يكابد الشاعر وهْم سلبه محبوبته، مُستحضراً ابا البشرية آدم، الذي خرج من الجنة كرمى حوّاء، فهو (أي آدم) كان ليسرق محبوبته، لو دخل بستانها ورأى صدرها المزدان رماناً وكرزاً!: "آدم إذا بتفّاحتو فرحان/ وكرمال حوّا طلَّق الجنّه/ شو كان صابو لو دخل بستان/ فيه الكرز ع نهود من رمان/ مأكّدْ، يا روحي، بيسرقك منّي!" (آدم).

   يمضي شاعرنا قُدُماً في هواجسه، حين يستفسر من "محبوبته" عن رقمه بين المحبين، طالباً إليها ما إذا كان أحدُهم قد سلب منها القلب! على أن ما يُعزِّز هذا الهاجس أنها دأبت في الكذب عليه، منذ خمس سنين... وهو على رُغم ذلك ما زال يُمنِّي النفس بسماع كلمة "أحبُّكَ"، تخرج من فيها!: "قولي شو رقمي بين المحبِّين/ وقولي إذا غيري سرقْ قلبِكْ/ مش حاسِسْ بحبِّك أنا.. تخمين/ عم تكذبي عليِّي شي خمس سنين/ حاببْ تا رَجِّعْ كلمة بحبِّك"(رقم).

   وكم تستبدّ الغيرة بشاعرنا حين يتناهى إليه- عَبْرَ أخي الحبيبة- أن ثمة عريساً تخيّرته الأم لابنتها! وإذا صحّ الخبر، فهو سوف يُجنّ، بل سيُبادر إلى شنق العريس العتيد، ليُزيحه من طريق حبه، ولتقُمْ القيامة بعد ذلك! : "عندك عريس جديدْ... إمِّكْ حبّتو/ وْلِكْ هيك خيِّك قال قدّامي/ رح جنّ.. جايي علّقو من رقبتو/ من بعد منّي تقوم القيامهْ" (قيامه).

   ومن مشهديات تلك الغيرة ما يلهجُ به الناس حول صُحبتها لأحدهم، مهّدت له السبيل، كي يعتصر منها العسل! ويُحذّرها بأن هذا العريس المزعوم سوف يتركها، مُخلّفاً جراحاً في قلبها!: "شو هالحكي الـ عم ينحكى عنِّكْ/ اسمكْ ع تمّْ الناس مرجُوحَهْ/ كنتي معو.. قالوا: وضحك سنِّكْ/ من بعد ما يقطفْ عَسَلْ منِّكْ/ رح يتركك بالقلب مجروحَهْ" (مجروحه).

   لقد تفاقمت حالة شاعرنا، فطفق يغار من حاله على حاله، مما يؤشِّر- كما اسلفنا- على حالةٍ مَرضِيَّةٍ لديه! فعوضَ أن تغمره السعادة ومحبوبته، ها هو يحترق بنار الغيرة! ومن المفارقات أنه يرى إلى ذلك من أجمل العذاب! : "بفيق الصبحْ تا كتُبْ الأشعارْ/ بشوفِك، يا روحي، شمس مضويّهْ/ وبصير من حالي عَ حالي غارْ/ وبَدْلْ السعادِهْ بحترِقْ بالنارْ/ أجمل عذابْ بعيش يوميِّه"(عذاب).

   كان هان الأمر لو بقيت غيرةُ شاعرنا، ضمن ضوابط معينة، فقد تجاوزت الى رؤيا سوداوية، فإذا به يكره الدُنيا وأهلها، ولا يرى في البشر سوى أشرار!: "مخجول إني بوحْ بالأسرار:/ مِنْ كِتِرْ ما هالناسْ حبّوكي/ وقالوا: أميره، وتاجك ملوكي/ كرهتْ الدني.. شفت البشر أشرارْ" (أسرار).

   في تصعيد لهذه الحالة المرضيّة، فإن الشاعر إذا ما عرف يوماً أن آخر يحتلُّ قلبها، فهو سيُبادر، من فورِهِ، إلى الانتحار!: "بركض وراكي.. بترفضيني دومْ/ رحْ إنتحِرْ لولا عرفتْ شي يومْ / إنسان تاني ساكن بقلبِكْ" (إنسان تاني).

   إذا كان للهواجس أن تعصف بشاعرنا، مُفرداً لها المساحة الأكثر اتّساعاً في "قصائد الغيرة"، فقد خصَّ حبيبته بخماسيتين، تُبدي فيهما بعضاً من زعل وشك، لا يرقيان إلى ما بلغه هو.

   ففي خُماسية "فضيحة" تعتبُ عليه لأنه لم يردّ على مكالمتها الهاتفية،  فيتذرّع بأن عطلاً طرأ على هاتفه الخلوي. من هُنا لا مبرِّر لزعلها، فهو لطالما كان "الجندي" الملبِّي، حين تدعوه: "الموبايل مشْ عم يشتغل عندي/ وعَمْ تزعلي مني على الريحهْ/ كل عمري لْطَلّتِكْ جندي/ كوني لعذابي، يا بنتْ، سندِه".

   ومن الخماسية الثانية "قاسيه"، يُناشدها ألاّ تكون قاسيةً معه، إذا ما خطر له رؤية النساء! فهو إذا نظر إلى امرأة، حسبما يقول، لا يرى منها إلاّ فستانها، ويخفي عن ناظريه الجسد!: "بحلِفْ إذا بتطّلعْ شويِّهْ/ بفستان مارقْ حدّ عينيّي/ بخفي المرا.. وببيّن الفستان".

هـ- عشق المرأة في تجسُّداتِهِ... وملامسة الشهوانية الشبقية

   في قصيدة "هلّق"، التي قيلت بمناسبة اليوبيل الذهبي لـ"مراهقة" (2018)، يُشير شاعرنا إلى أن بعض الناس، ممن يزنون باسم الدين، لم يُعجبوا بهذا الديوان، بسبب موضوعاته الجريئة، المنتمية إلى الغزل الإباحي!

   في مواجهة هؤلاء "الفصاميين"، يُعلن البعيني، وهو في الستينيات من عمره، تبنِّيه "مراهقة"، بل أبُوَّته، وليُضيف بأن شعوره لا يزال، كما كان في مطلع شبابه!: "وهلق بعدما كبرت، يا كتابي/ لبست الدهبْ بسنينك الخمسين/ في ناس ما حبّوكْ.. نِصّابه/ بالسرّْ عم تزني باسم الدين/ قالوا: حكي.. ما بينحكى بغابِه/ قالوا: الجنس بيفرَّخ شياطين/ هيدا شعوري بزهرة شبابي/ وبعدو شعوري بشيبة الستين).

   ويبقى السؤال، بعد هذا التبنّي الحاسم لـ"مراهقة"، ونحن نُقارب "خماسية حب": هل لا زال شربل بعيني منحازاً إلى اللون الغزلي الإباحي، في صيغتِهِ الجنسانية الشبقية؟ أم ثمة تحوّل جذري شهده شعره في المرأة؟

   ذلك ما سوف نتبيّنُهُ، عبر مجموعة من خماسياته، ولتكون مقارنةٌ بينها وبين بعض قصائد – شواهد، من ديواني "مراهقة" و"معزوفة حب"، كون الدواوين ثلاثتُها، وهي متباعدةٌ زمنياً بين بعضها بعضاً، تشكل محطاتٍ/ معالم من مسيرته الشعرية الغزلية.

   في قصيدة، من "خماسيات" ، عنوانها "إنتي هون"، هناك ملمحٌ شهوي، إذْ يروح الشاعر إلى غفوةٍ صغيرة، في حضن محبوبته الدافئ، تنبري شفاه هذه المحبوبة إلى التهام شفاهه!: "لو خيّروني بين مال الكون/ وغفوه زغيره بحضنك الدافي/ المال رح بيروح.. انتي هون/ حدِّك بشوفْ السما بلا لونْ/ كل ما شفافك تاكل شفافي!"

   في تعريف شاعرنا الحُبّ، لا يُبرئ الحبّ من طابعه المادي: ضمّاً وتقبيلاً ودغدغةً وعناقاً: "الحب منّو بهوره وخناقْ/ تا تقاتليني كلّ ما ضمِّكْ/ الحبّْ بَوسِه ودغدغه، وعناقْ" (جنس).

   في استعراضٍ لواحدةٍ من ليالي العاشقين الحُمر، يُشهدُ شاعرنا التخت والفراش على تلك الليلة!: "بتتذكّري بالليل شو عملنا/ لا تستحي.. كل البشر عملوا/ عَ التخت، سجّلنا عمايلنا/ وتعبت الفرشِهْ من تمايلنا/ وجسمي عَ جسمك ما قدِرْ حملو" (لا تستحي).

   وإذْ نعمد إلى "مراهقة" لنُشهدَ "التخت المكسَّر"، نرى بوناً واسعاً بين تخت تعب من تمايل الحبيبين، في "الخماسيات" وبين تخت تكسَّرت "عظامه" من كثرة الشدّ والرهز، على إيقاع تنهيدات، ملأت أجواء غرفة "العمليات" الشبقية!.. كل أولئك بإزاء صدرٍ قاسٍ، لا يعرف الترهل إليه سبيلاً، وجسم يحسدُه المرمر!: "صدرِكْ.. قاسي ومحجَّرْ/ جسمك أحلى من المرمرْ/ بتذكَّر ليلة بتشرين/ شربنا من اللذّه أكترْ/ تلجْ.. وكنّا بردانين/ بينقصنا الجمرْ الأحمرْ/ (...)/ عبّينا الأوضهْ تنهيدْ/ مسكين التختْ تكسَّرْ/ وكل ما شهوتنا بتزيدْ/ بتصفِّي اللعبة أخطر!".

   إمعاناً في المقارنة، ومن مسلسل "الفرش والتخوت والأوض المعتمة"، هاكم هذه المشهدية التي تصل فيها الحبيبة إلى "الاورغاسم" orgasm) ، أعلى درجات الهياج، هياج شهوتها الجنسية، فتطلب إلى المحبوب أن يُطفئها بدفقٍ من مائه! : "خدني عَ أوضه معتَّمِهْ/ عَ فراشها تا نرتمي/ جسمي شِعِلْ.. دمّي حمي/ عجِّلْ بميّكْ رشّني/ خدِّي لهبْ، عنقي احترقْ/ قلبي سهمْ شهوه اخترقْ/ وعَ دربْ جسمي ما مرق/ غيرك إنتْ.. لا تصدّني" (قصيدة: جسمي شِعِلْ).

   في مشهدية شهوية طريفة، من "خماسيات حب"، مدخلُها بعض الأطعمة التي يستسيغُها الشاعر، يكونُ عبورٌ إلى طعام، بل شراب من نوعٍ آخر وغير مأنوس، هو ريقُ الحبيبة، لا يشربه إلاّ إذا كان حاراً!: "كل الطبخ، يا حلوتي، بحبّو/ المجدّرَه، الفاصوليا، اليخنِه/ وريقِكْ إذا عَ سفرتي بصبّو/ متل العرق رح إكرعو وعبّو/ عَ شرط تبقى حرارتو سِخْنِه!" ( طبخ).

   في غمرة تعب شاعرنا، المشوق لصدر الحبيبة، ليسترخي عليه، يدعوها فتستجيب شريطة أن تكون هذه الخطِيّة من الخطايا الحلال!: "لاقيني اليوم عَ الساحه عشِيِّهْ/ في عندي كتير لخدودِك شهيِّه/ عَ صدرِكْ صار لازملي استراحه/ قالتلي: بسّْ رح قولْ بصراحه/ ما بدِّي تكون هالشَغْلِه خطيَّه" (لاقيني).

   وفي مشهدية من "خماسيات حب"، من العيار الثقيل، توشكُ المحبوبة أن تُوضع عند باب الاستسلام لشهوتها، بل عند عتبة ممارسةٍ جنسيةٍ ناجزة، فلنستمع بلسانها، وهي تتساءل بداءةً عن معنى الغريزة؟ : "بـ ربَّكْ قولْ: شو يعني غريزِه/ وليش الجسم عَمْ يعرقْ وفرحان؟/ إذا بتبوس تمِّي، يا عزيزي/ مِتْل الكذبْ بِتولِّعْ النيرانْ/ ومنّو لَ حالو بيوقَعْ الفستان!" (غريزه).

   في وصف "مُتأدِّب" للشفاه، وهو وصفٌ تقليدي، إذ يُشبهها بالورد الأحمر – ودائماً من "خماسيات حب"- يأسى شاعرنا لأنه لن يحظى بهذه المحبوبة "المحجوزة" لسواه: "جرّبت إني إسرقْ البوسهْ/ من شفافْ أجمل من ورد أحمرْ/ رفضتي، صرختي وحفظت درسي/ عرسِكْ، يا حسره، ما طِلِعْ عرسي/ مأكَّدْ وْصِلتْ كتير متأخَّرْ" (بوسه).

   في مشهد، من خماسياته، لا يخرج كثيراً عن الضوابط المكرّسة بين الحبيبين، ينمُّ عن جوعٍ شهوي، يعمد شاعرنا إلى تقبيل كفَّي الحبيبة، وينتظر ضيوفها كي يلتهمها (مجازياً!)، بالتقسيط (شقفِه وراء شقفه!): "وبنخّْ بوسْ الفلّْ عَ كفوفِك/ وبنطرْ تا حتى تودَّعي ضيوفِك/ تا آكلِكْ شقفه ورا شقفه" (إحساس).

   إلى مشهدٍ، من "الصنفِ" عينِهِ، يتسِّم بوداعةٍ جنسية- إذا جاز التعبير- فهو إذْ يُقبِّلُها بين عينيها، يأبى أن يغلّ في فراشها من دون رضاها!: "من بوسة عيونِك أنا رح دوخ/ كيف لولا هجمت عَ شفافِك/ (...) وغير بالرضا ما بْغِلّْ بلحافِك" (جوخ).

   بين "مراهقه" (1968) و"خماسيات حبّ" ، التي تنتمي قصائدها إلى الأعوام الثلاث الأخيرة (2018- 2019- 2020)، كانت مسيرةٌ، استهلكت نيِّفاً وخمسة عقود من حياة شاعرنا، بل مسيرة في مجاهدة المرأة وعالم المرأة، بكل ما فيه من جمالات ومن عذابات، إلى جانب عوالم شتى، فكان إبداعٌ، كما ردّدنا في مواضع من دواوينه التي قاربنا.. هو إبداعٌ في فصيح شعره وفي محكيِّهِ، على حدّ سواء!

   وإذا كان قد ذهب مُقدِّما ديوانيه "مراهقه" و"معزوفة حب" إلى أن ثمة تطوراً دراماتيكياً طرأ على فن الغزل لدى البعيني، وأنه أعلن توبةً نصوحاً، فلا يعود إلى الغزل الإباحي، فإننا لا نوافقهما رأيهما بشكل كامل، ذلك أن ما ذهبا إليه قد يصحُّ على ما أنتجه شاعرنا حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، أي مع "معزوفة حب" (1989). وقد يتم تجاوز هذا التاريخ لسنوات معدودة فنحن، من خلال "خماسيات حب"، تلمّسنا "استفاقةً " غزلية، نتحفّظ في أن نطلق عليها "جهلة الستين"! فالنصوص التي قاربناها ما زالت تحتفظ ببعض سماتٍ وطوابع من "مراهقه"، مع تسليمنا بخبوّ الكثير من النار المتأجِّجة ، التي كانت تُلهب شاعرنا، مطلع حداثته وشبابه! وتعليلُ هذا التحوّل النضج الذي بلغه شاعرنا، بعد تجربةٍ مديدةٍ، ناهيك عن المرحلة العمرية التي يستظلّها راهناً، والتي لا تأتلف مع ما كان يبوح به في العشرينيات من عمره! فالزمنُ خيرُ معلّم، وخيرُ كابحٍ لشطط  الإنسان، وخيرُ هادٍ إلى التزام الاعتدال والإقلاع عن التطرُّف!

   على رُغم تحفظنا عن طبيعة التحوّل الذي طرأ على فن الغزل، لدى شاعرنا، فإننا نوافق الناقد بو ملحم، حيث يرى أن غزليات البعيني، في "معزوفة حب" ، طفقت تترجَّح بين الإباحية والطُهرانية الصوفية. ولنا أن نتمثّل بشواهد من "النمط الصوفي"، فنستبين بحق ذلك التوجُّه الغزلي الجديد، الذي أضفى ملمحاً مميزاً على فن الغزل، لدى شاعرنا:

   من قصيدة "أربعة مشاهد" نجدُ ما يُحاكي فلسفة القرآن الكريم في الخلق: "وما خلقتُ الجنّ والإنسَ إلاّ ليعبدون" (سورة الذاريات: 56)، ذلك أن شاعرنا يُريد والحبيبة أن "يُفبركا" البشر حتى يعبدوا الله، وبذا يربط بين الحب والخلق!: "رَحْ ضلّ حِبِّكْ تا يدوبْ اللونْ/ وتدبِلْ عيونْ البشر كلاّ/ وما يضلّْ غيري وغيرك بهالكونْ/ نفبرِك بَشَرْ.. تايعبدوا الله".

   ومن قصيدة "حبِّك أعتق من أيامي"، حيث الكنيسة (مكان للعبادة)، وحيث البخور... بما يوحي بطهرانية الحب: "خبِّي وجِّكْ عن عينيِّي/ حرقتيني.. حرقتيني بنورِك/ بهرُبْ مِنِّك.. بسّ ما فيّي/ إهرُب من ريحة بخورِك/ يا كنيسهْ بضيعه منسِيِّه/ بوقت الشِدَّه برجع زورِك".

   وهذه الأهزوجة، من "معزوفة حب" التي تزاوج بين الله والمحبة!: "لا تمنعوني حِبّْ/ لا تعتّموا قلبي/ الحب أجملْ دربْ/ والربّ محبِّهْ" (لا تمنعوني حب).

   ومن "معزوفة حب"، وبالاتجاه المعاكس، نتوقف عند نموذج واحد، حيث للغزل الإباحي المخفَّف حضور: "قلعتي تيابكْ/ زهَّرِتْ المروجْ/ والنار حرقتني/ ودابت عَ صدري تلوج/ بالبرد حبستني/ من ساعة غيابِك/ خلِّي ايديِّي تموجْ/ مِتْل الرياحْ الهوجْ/ ع بيدر شبابِكْ" (تجسَّدي فيّي).

و- المعشوقة .. كما يرغبها الشاعر.. ودائماً عَبْرَ مرآتِهِ!

   سواءٌ أكانت معشوقة شاعرنا حقيقيةً أم افتراضية، فقد كان مُتطلِّباً في رسم صورة لها، تترجَّحُ بين الواقع والخيال! هكذا هم الشعراء، في كل زمان ومكان! لقد تطرّق إلى صفات تتلبّسُها، من وحي رؤيته الخاصة، هكذا، عبر بضع "خماسيات" خلص إلى السمات الآتية: 

   يتطلّع شاعرنا إلى حبيبةٍ دائمة الحضور أمام ناظريه، فيكحِّلُهما بطلّتها الجميلة، وبضحكتها التي تُدخل السرور إلى قلبه.. ضحكة باعثة على التفاؤل، هي رأسماله الأغلى.. تُديم الضحك حتى تُزهر لياليه: "كل يوم لازم شوفك قبالي/ وكحِّل عيوني بطلِّتكْ عَ طولْ/ ضحكة شفافك بسّْ.. رسمالي/ ضلِّي اضحكي تاتزهِّر ليالي" (ضحكتك).

   إذْ يُريد شاعرنا أن يتغزّل بعينيها، فهو يرغب بألاّ تضع نظارتين، تحجبانهما عن بصره، معلّلاً بعدم طمس الجمال بالعتمات، سيّما أن لون الفحم لا يأتلف مع جمال المحبوبة!: "عارضت إنك تلبسي عويناتْ/ كِرمالْ إتغزّل بعينيكي/ عيب الجمال يغيبْ بالعتمات/ (...) لون الفحم ما بيلبق عليكي" (عوينات).

ـ كم هو جميلٌ شعر المحبوبة، مُتطايراً فوق الريح، يخطُّ أشعار شاعرنا، يُلامسهُ جسداً، ويُقبِّلُ أنفه، نيابةً عن الحبيبة!: "واقف أنا عامود صعب يزيح/ بَرْكي الشَعَر بـِ بُوسْ منخاري!" (مراجيح).

ـ في واحدٍ من مشاهد الإغواء، تمضي به الحبيبة إلى جنون، وهي تغنجُ بفستانها البني، وبعقدها اللولو، وبشعرها الأشقر: "هالبنت، والله، رح تجنّني/ بتتغندر بفستانها البنّي/ والعقد لولو والشعر أشقر" (فستان بني).

ـ وإذْ يتطاير فستانها مع الريح، فيبرز مواضع الجمال الحميمة تحته، يدعوها بألاّ ترد هذا الفستان كي تستر أجمل كنز، ترمقه عينا الشاعر: "لا تنزّلي الفستان تا تصوني/ أجمل كنوز بتقشعا عيوني" (يوم القيامة).

ـ وكما يرغب أن يراها، فهو من مقلب آخر، بل من موقعه، يجدُ نفسه مسحوراً بعينيها، وذاهلاً أمامها، بل في حالةٍ من "التسطيل"- إذا جاز التعبير- .. يجلس أرضاً، وهو يرسم صورتها على قارعة الطريق، بطبشور، جُبِلَ وفاءً: "كتار اللي قالوا صِرْتْ مجنونِكْ/ وعَ الأرض قاعد ارسم جفونك/ بطبشور أزرق بالوفا مجبول" (طبشور أزرق).

ـ يُريدها، كما أوردنا في موضع آخر، تلك المحبوبة التي تُفدِّيه بروحها، وتدعو الله أن يكلأه برعايته (صايمه)، وأن "تُسبِّح" بحمده، كون السعادة لن تكون إلا إذا كانت إلى  جانبه، وأن تغرق في حُبّه، إذْ ليس من أحدٍ يُضارعه! (حبيب القلب).

   إشارةٌ إلى أن ثمة سمات مُتعدِّدة، لم نأتِ على ذكرها، مبثوثةٌ في تضاعيف النقاط التي سبقت.

ز- في الشباب الآيل إلى أفول.. والعلاقة الخائبة!

العمر .. إذا سرى، وما أدراك ما العمر الساري! إنه الهاجسُ القاتل، الذي يستبدُّ بالشعراء جميعهم، وهو يشدُّ بهم إلى أرذل العمر!.. يجهدون في التهرّب من شبحه، فهو يُنغّص عليهم سعادتهم التي كانوا فيها يرفلون، ويتهدّدهم بانهيار العلاقة التي تربطهم بمحبوباتهم!. 

   هكذا هي حال شاعرنا الواقع عند أبواب السبعين! أُسقط في يده، فلم يستطع طرد الشبّان الذين ما فتئوا يتهافتون على محبوبته، وهم من جيلها! كيف له أن يزيحهم من دربها- بل الأصح من دربه!- وَقْتَ تغمزهم وتغنج أمامهم؟ : "شفتك أنا عم تغمزي الشبّانْ/ وتغنّجيهن.. والغِنْج بركانْ/ وْلِك كيف بدِّي ردّهن عنِّكْ/ وعُمري كبيرْ.. وسِنّهُنْ سِنِّكْ؟"، هكذا يعلنُ بأسى فشل علاقته بالنساء "عَ طولْ عم إفشل مع النسوان" (فاشل).

   وكم تُؤرقِّه عقدة الرجولية، وقطار العمر به ماضٍ، فإذْ تقع محبوبته في بركة ماء، عزم على أن يقفز خلفها، مُحاضراً في الرجولية: "فزّيت خلفك.. قلت بدِّي فوت/ بالمي.. بركي منقلِّع سْوِيِّه/ وإشرح إلكْ معنى الرجوليّه" (بِرْكه).

   إذْ تُعيِّره المحبوبة، فهي تسخر منه لأن شعره "تزلّط"! فإذا به يُسفِّه قولها، مُتذرِّعاً بحجةٍ، فيها شيءٌ من طرافة، فهي، حسبما يقول، لو لم "تتزلّطي" لما خلّفتِ (!!): "قالت: يا شربل صار شعرك "زلط"/ قلتلها: يا ريت ما وصفتي/ انتي الحقيقه بتاخديها خلطْ/(...) ولو ما تزلطي ما خلّفتي!" (زلط).

   في عملية مكاشفةٍ ذاتية، وعلى طريقة "تغديناهم قبل ما يتعشّوا فينا"، فالشاعر إذْ لمح محبوبته تقف قبالته، وألهبت فيه النيران، راح يتمتم ، مخاطباً نفسه، بأن يخجلّ: "وصفّيت دردش هيك لَ حالي:/ عيبْ استحي من البنت يا ختيار" (عيب استحي).

ح- الحب... حيث يتحدّى "زمن الكورونا"!

   لعل ما يُميِّز نتاج البعيني الأدبي راهنيته- كما نوّهنا آنفاً- ذلك أن شاعرنا ذو فكر حداثي، يُواكبُ قضايا عصره، ويُفيد من منجزاته المتجسِّدة، في مختلف الثورات المتتالية ، لا سيما في الميدان التكنولوجي، وفي عِداد هذه الثورات ثورة التواصل والاتصالات التي أحالت العالم قرية كونية صُغرى. ناهيك عن رصد شاعرنا مختلف الأوضاع الدراماتيكية التي يشهدها كوكبنا، على الصعيد البيئي، بكل منعكساتِهِ المدمِّرة! 

   من هنا يتفاعل شاعرنا مع جائحة الكورونا التي تجتاح راهناً أربع جهات المعمورة، مخلِّفةً مئات آلاف الموتى، وبضعة ملايين من المصابين بهذا الوباء المرعب.. والحبلُ على الجرار، إذْ عدّادُ الكورونا في اشتغالٍ!

   لم يتصدَّ البعيني للمسألة من منظور بيئي، ولا من منظور طبي، بل من منظور الدائرة العشقية التي "يحجرُ" نفسه فيها! هكذا كانت عشر "خماسيات" كورونيات، نمَّت عن ضيق صدره من هذه الجائمة التي تقف حجر عثرة في طريقه إلى محبوباته، وقد أسرتهُ بين جدران المنزل! وقد اتسمت هذه القصائد بطرافة، ذلك أن شرّ البلية ما يُضحكُ!.. فمهما انتشر الكورونا وتعاظم خطره، لن يستطيع إبعاده عن الحبيبة، فإذْ يرى إليه الوباء، فهي الشفاء: "عنِّكْ تا إبعِدْ.. لأ ما فيني/ إنتي الدوا يا نور عينيِّي!" (كورونا).

   وإذْ تعصف به الشكوك، إثر ابتعاد الحبيبين عن بعضهما بعضاً، فهو يخاف أن تنساهُ وتُعرض عن حبّه : "خايف عَ كتر البعد تنسيني/ بعصر الكورونا.. وما تحبّيني" (كيف الحبيب).

   وإذا كان للكورونا من عظةٍ، يتلوها على البشرية، فهي دعوته إلى عبادة الله! كأننا بشاعرنا يُوحي بأن هذه الجائحة هي "غضبٌ" من الله، ينبغي التبصُّر فيها والاعتبار: "ليش صار الكونْ كلّو موتْ/ يا روح روحي.. وما انسمعْ هالصوتْ/ اللي قال: لازم تعبدوا الله" (ممنوع لاقيكي).

   وفي ذروة هواجسه، يخاف على معشوقته من أن يُحبّها الكورونا، فهو يهوى الغلَّ في النساء، حسبما يتوهّم!.. من هُنا، فإن الشاعر مُزمعٌ أن يُوقفه عند حدّه!: "قالوا: بيغلّ كتير بالنسوان/ (...)/ رح جنّ.. جايي اوقف بدربو" (فزعان). 

   وإذْ تبكي الحبيبة، خشية أن يُصيبها هذا "الفيروس" اللعين، يُطمئنها شاعرنا بأن هذه الجائحة ستمضي بسرعة، ولسوف يعودان إلى ايام الهناء: "فيروس كورونا بيمرقْ بسرعه/ وبرجع بشوف بوجِّكْ الضحكه/ (...) وبينتهي هـ السيّء السِمعَه" (لا تبكي).

   لعل ما يُزعج شاعرنا، من هذا الزمن الكوروني، أن الكمامة التي تضعها الحبيبة، تغطي كل جمالات وجهها! كما يُؤلمه أنه لم يعُدْ مسموحاً الضمّ والشمّ، بسبب التباعد الاجتماعي! : "كمّامتك.. ما عاد تعجبني/ (...) ما عدتْ إقدِرْ ضمِّكْ وشِمِّكْ" (كمّامه).

   وإذْ لم يُطق شاعرنا صبراً على الكورونا، وراح إلى اعتقادٍ أن في الحب شفاءً منه، فقد تحدّى "التعليمات" التي تحظر التواصل، فنام على صدر الحبيبة، وأحسّ أن ثمة جوعاً لديه إلى شفتيها! : "بعصر الكورونا الحب مش ممنوعْ/ يمكن بيشفي من المرض كلّو/ نمت على صدرِكْ.. صِرتْ شدّ طلوعْ/ حِسيَّتْ لشفافِك في عندي جوع" (عصر الكورونا).

ط- وسائل التواصل الاجتماعي.. مُنغِّصات الحُبّ!

   على غرار ما رأينا، في المسألة "الكورونية"، فإن شاعرنا يُقارب وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما الفايس بوك والواتساب، من كونها منغِّصات للحب، تحولُ غالباً بينه وبين محبوبته!.

   ففي خماسية "فايس بوك"، يتهم هذا الموقع الالكتروني بأنه يسلبه حبيبته، فهي تتراسل وكل الأصحاب، في مختلف بلاد العالم، ولا تُعطي بالاً للشاعر: "بتراسلي الأصحاب وين ما كان/ (...) وحدِّك أنا.. وما بتسألي عنّي".

   وعن الموبايل، هذه الآلة اللعينة!.. يُصادر كل أوقات الحبيبة، ويُدمِّر حياته ويُشوِّه حياتها، ويُلغي جلسات الفرح من قاموسهما!: "دمَّر حياتي وشوَّه حياتِك/ كنا سوا نتساير ونفرحْ/ ومطرح ما نقعُدْ يفرح المطرحْ" (موبايل).

   في نظرة واحدة إلى الفايس بوك والواتساب، فهي إذْ تتواصل معه عبرهما، متقبّلاً هذا النمط من التواصل عن بُعد، ولكن على مضض، يدعوها إلى استكمال "معروفها" بأن تُطِلَّ عليه شخصياً، بما يخفِّف من ظنونه : "طلِّي قبالي.. خفِّفي ظنوني/ ضايع أنا من دون ما شوفِك" (ضايع أنا).

   إذا كنا من خلال هذا الاستعراض الوافي للعناوين الكبرى والمحطات الأساسية التي احتواها خطاب البعيني، من حيث المضامين، وأشبعناها درساً وتحليلاً، فإن ثمة موضوعات متفرقة أخرى، أفرد لكل واحدٍ منها خماسية أو خماسيتين، وهي تتراوح بين أطروحة العيش المشترك (عيد الفطر)، وذكورية المجتمع الشرقي (طفران)، إلى "مسيحيات" تُبرز البُعد الديني الإيماني لدى شاعرنا (الجمعة العظيمة/ سبت النور/ قام المسيح)، إلى العائلة البعينية وكريم محتد الشاعر (الكرامة).. ولئن كانت هذه الخماسيات قد بدت من خارج سياق تلك العناوين الكبرى، فهي منطبعةٌ بنفس الروحية التي تسِمُ "الخماسيات" جميعها! أوليس الأسلوب هو الرجل؟! والرجل هو عينه البعيني شربل، في كل ما يكتب ويبوح؟!

في الخطاب التعبيري.. البعيني حارسُ المحكية اللبنانية و"دائرةُ معارفها!"

   ليس المقصود بالخطاب التعبيري الجانب الأسلوبي، بمعناه الحصري، أي سلامة اللغة وجمالية التعبير، على أهميتهما. بل نذهب بعيداً، فنجدُنا أمام مختلف السياقات التي تُصبُّ فيها الأفكار والأُطرُ التي تتمظهرُ عبرها المعاني، بما يأخذنا إلى جدل المعنى/ المبنى، إلى التداخل الذي يُشرِّع الأبواب، كي يخترق كلٌّ من المُعطيين دائرة قرينه، ولا يكون إبداعٌ إلاّ من خلال التماهي الخلاّق بينهما!.


   هكذا، فإن المسألة أكثر تعقيداً، مما يعتقد بعض النقاد الذين يرون إلى المعاني كروحٍ، وإلى الأسلوب كجسدٍ، يستُرُ هذه المعاني!. 

   كلاهما، في عُرفنا، روحٌ وجسدٌ، طرداً وعكساً!

   هكذا هي محكيةُ البعيني الشعرية، كما تبدّت لنا، سواءٌ أكان يُدركُ خطرها أم لم يُدرك! يكفي أننا من قادريها ومثمّنيها عالياً وغالياً، ونحن نلجُ عُمق المسألة!

   وإذْ تُكذِبُ المياهُ "غطّاسي النقد"، فقد أكببنا على مقاربة خطاب المحكية التعبيري، لدى شاعرنا، بما يضعنا أمام هذه النقاط – المعالم: 

أ- محكية البعيني الحاكيةُ صُوراً! 

   تكاد لا تخلو "خماسية" من خماسياته من صورة، أو من مشهديةٍ تضم بضعة صور، فإذا به يشعرُ (أي يكتب الشعر) بالصُور، يعضُدُه في ذلك خيالٌ، يترجَّح بين بُعدين: بُعدٍ حسّي مادي وبُعدٍ معنوي (مجازي)!.. وهاكم بعضاً من أمثلة- شواهد: 

ـ في خماسية "شتويه".. ها هي المخدّة توشوشُ شاعرنا، مُفاخرةً، وقد شعرت بثقل رأسي الحبيبين عليها! : "حسِّتْ بـِ تقل تنين المخدِّه/ وشوشتني: اليوم مين قدِّي!".. فأن يُنطق البعيني المخدّة، ولو همساً، فذلك يندرج تحت باب التشخيص، بحيث يتم إحياء الجماد ](personnification)، فيغدو له لسانٌ وشفتان، كما البشر. 

ـ وليكن تبصّرٌ في هذا التعبير، حيث ينطق الحجر، وحيث يُطلب إلى وردة الدار بأن تقصّ ضلوعهُ وتُحيلها حجارةً، يدعم بها شاعرنا البيت الذي يبنيه لحبيبتِه!: "بيتك أنا رح عمّرو بأزهار/ تا تغار منّك كل حيطانو/ يا وردة اللي مفتّحه بالدار/ قصّي الضلوع وحولِّيها حجارْ/ يمكن ضلوعي تزيد بنيانو" (بيتك).

   عبر هذا المثال لا ندري أيُّهما أكثر روعةً، هل هي المعاني أو السياق الذي تأتي فيها تعبيراً؟ أم أن كليهما يرتقي بالآخر، عبوراً إلى قمة الإبداع؟!

ـ "قدّيش الله تفنّن برسمك/ ومن كلّ نجمه نور يعطيكي/ صار القمر يتغزّل بكسمِك/ والزهر يرمي العطر عَ جِسمك/ تا يحببّوني كلهن فيكي" (رسمك). 

   هكذا تتحرك عناصر الطبيعة، بعد الله، فالقمر يتغزّل بقوامها، والزهر يغمرها بعطره.. كل أولئك لتخرج من بين يديّ الشاعر حوريةٌ من حوريات الجنة، التي وَعَدَ الله المؤمنين بهن!!

ـ وماذا عن هذه اللوحة الرائعة، إذْ يجعل الشاعر من صدره مسرحاً للحبيبة، فترقص على خشبتِهِ! ولا يكتفي بذلك بل يُريد أن يُلهب شفتيها طوال العمر! وإذا كان للجمر أن يحرقه، فهو راضٍ، فنارها نعيمُهُ، وما أحلى الموت على يديها: "ورَحْ شعِّل شفافك عَ طول العمرْ/ ومعليش لولا بحترق بالجمرْ/ حدِّك أنا وعَمْ موتْ.. رح إفرحْ" (مسرح).

ـ في سبيل المحبوبة.. في سبيل حبّها، هو على استعداد لصُنع المعجزات.. يُحمِّلُ الغيوم عطر الدُنيا لينهلَّ عليها.. يُبعثر الزمن ويُعيدُ عقاربه إلى الماضي فيستعيد شبابه.. يُعيدُ النظر في خريطة العالم لتغدو الحبيبة قريبةً منه، إذْ يفصل بين الحبيبين بحرٌ وسماء: "بودِّي الغيوم.. بحمّلا عطر الدني/ وتا صيرْ شَبّ.. بخربط شهور السِنِه/ وتا قرّبك.. هالأرض بِرجَعْ إرسما" (عطر الدني).. ولِمَ العجب، أوليس الحب صانع العجائب؟!

ـ وإذْ لا يخشى شاعرنا "الكورونا"، بل يرى إليه مدعاةً لشفاء!.. ينام على صدر الحبيبة، فيكتب له شفاء! ينتابه جوعٌ لشفتي الحبيبة، فتنبههُ بأن التقبيل في زمن الكورونا، يثير الخوف.. فلا يُبالي: "نِمت على صدرِك.. صرت شدّ طلوع/ حسّيت لشفافِك، في عندي جوع/ قلتي: الـ بيبوس اليوم يا دلو" (عصر الكورونا).. لاحظ: "صِرت شدّ طلوع" عملية الزحف من الصدر إلى الشفتين، وكأننا به يقود سيارة ويُصعّد بها إلى أعلى!

   تلك الصُور والمشهديات، وهي قليلٌ قليلٌ من خماسياته ويبقى  الكثير الكثير، تُبرز لنا كم هو صعبٌ وضعُ فواصل ما بين المعاني والصُور التي تُسكبُ فيها هذه المعاني.. فأنت إذْ تقرأ تعملُ كل حواسِك الخمس جرّاء قوة التجسُّد التي يتقنها البعيني!

ب- محكيةُ البعيني.. مشهديات مُبتكرة.. ومن عالمٍ آخر

   في هذا المجال، على رُغم انتماء شاعرنا إلى "النيوكلاسيكية" (الكلاسيكية الجديدة)، فهو وإنْ عارضَ، في بعض شعره، كبار الشعراء الذين تأثَّرهم، من القباني نزار، إلى سعيد عقل، إلى محمود درويش.. وسواهم من المجددين.. لم يجترّ معانيهم، بل عمد إلى معانٍ مبتكرة حيناً، وإلى معانٍ تقليدية، عمل على "إعادة توزيع" لها، فجاءت بحلة "بعينية" جديدة! كانت له من هؤلاء الشعراء العناوين الكبرى، ولكنه لم يترسَّم خُطاهم، بل كانت سُبُلٌ جديدة ومنعرجات اختطها لنفسِهِ، ليكون نسيج وحده! قد غنّى القدس، ولكن قدسه ليست قُدس سعيد عقل.. قد يصبُّ لعناتِهِ على الحكام العرب، كما فعل القباني، ولكنها لعناتٌ "بعينية"، لها أطرها الخاصة!

   هذه الخاصية انسحبت على خطابه التعبيري، فكانت معانٍ في سياقات مبتكرة، وغير معهودة، كتبت لشاعرنا فرادةً، فغدا مُبتدعاً لا متّبعاً! وكشواهد على هذا النهج، نكتفي ببعض أمثلة/ شواهد من "خماسيات" حبه: 

ـ في قصيدة "بحيره"، إذْ يُخيِّر المحبوبة لتكون كما تشتهي، شريطة أن تبقى إلى جانبه، فيبوح لها بما يُقاسي من عذاب، يُهرقه دموعاً تملأ بحيرةً عن آخرها!.. وخشية أن تتسرّب الدموع من هذه البحيرة، فهي تحتاج " سدّادة"، في حين لا تحتاج عيناه "سدادةً" كي لا تتسرب الدموع "الهائلة" منهما! فيا لها من مفارقة! : "عم إِمرقْ بأيام مجنونِه/ بهدي البحيره دمعة عيوني/ بلاقي البحيره لازما سدِّه".

ـ في خماسية "سابين"، إذْ يُزمع شاعرنا شنّ غارة ليلية على تلك البنت "الرشدبينية" (رشدبين) المغرم بها، بل هي شمسُهُ المضويّة، يدعوها إلى أن تضع حرساً على باب بيتها ليلاً! والسؤال: كيف لمهاجمٍ أن يُعلِمَ من يبغي مهاجمتهم بنيتِهِ و"بالساعةِ الصِفر"؟ وهل لحرامي أن يُنذر أصحاب بيت يستهدفه بأنه قادمٌ إليهم؟ تلك هي المسألة في "سابين"، بل الطرافة المحبّبة التي يُجيدها البعيني، فيأتينا بالعجب العُجاب! 

وهكذا: "انتبهي القمر ساكن برشدبّين/ ومغروم فيكي يا بنت شعنين/ حطِّي حرس عَ البيت ليليِّه"!

ـ وإذا كان لدى كل شاعر شيءٌ من نبوَّة، وآيات الأنبياء المعجزات، فإن البعيني يأتي بالمعجزات لو استطاع، كرمى لمحبوبته.. فهو يُحيلُ البحر قرطاساً يخط رسمها على صفحتهِ! بل يُحيله بستاناً، ويُحرِّك الطير أفواجاً تأتي وأفواجاً ترتحل في حركة تعاقبية ولا أجمل.. ويسقي زهورها بدمع عينيه : "بركي بتظبط بينك وبيني!".. وكما لامسَ البعيني الإعجاز ببنات أفكارٍ لم تتحقق، فقد لامسه بل أدركهُ من باب هذه المشهدية: رباعية الصور: الرسم على الموج، واستحالة البحر بستاناً، وحركة الطيور أفواجاً أفواجاً، وريْ الزهور من دموع العين..! فما قولك في هذه المشهدية، مُتعدّدة الصور، ومُبتكرة العبارة، وعمق خيالٍ، وكثافة تعبير؟: "لو كان فيني إرسمك عَ الموج/ بخلِّي البحر يتحوّل جنينه/ والطير.. فوج يغطّ، يرحل فوجْ/ واسقي زهورك بدمع عيني/ بركي بتظبط بينك وبيني" (جنينه).

   حتى لا نستغرق في المسألة تفصيلاً، ويكونُ إملال، والتزاماً بما ذهب إليه أبو عثمان الجاحظ بأن "الأسماع إذا كثُرت عليها الأصوات الجميلة ملّتها"، نكتفي بهذه الشواهد- العيّنات، ونضع بين يدي القرّاء بعضاً من خماسيات أخرى، لكي يتدبّروها، سالكين نهجنا في مقاربة ما احتوته من جديد المعاني ومبتكرها: (على سبيل المثال لا الحصر:" متعوب" /"إلماز" /" شو تاعبك).

ج- محكية البعيني.. إنسيابية.. على مشارف الغناء واللحن!

   من يقرأ "خماسية حب" كما الكثير من دواوين شاعرنا بالمحكية، يشعر بأن كلمات القصائد والتعابير تُسابقه، فتجهر بنفسها! فما أن يتلفظ بها حتى "تكرج" أمامه، مُنسابة، كما الماء العذب الزلال!.. تخرج من مكامنها، من صدفاتها لآلئَ، تدهم كل الحواس برقة وعذوبة!.. كل أولئك من عناصر الانسيابية التي أُشتُهِر بها شعره: فصيحاً ومحكيّاً، انعكاساً لطبيعة شاعرنا، نَفْساً، وجدت صداها في خطابه التعبيري!

   ومما يُعزِّز من حضور هذه الانسيابية في محكيتِهِ الشعرية، أن غالبية القصائد، في عِدادها خماسياته، تصلح للغناء والتلحين، مما يعني استبطانها موسيقى داخلية، قائمة على الإيقاع الموسيقي، يُوفِّره أحياناً التزام بعضها البحور الشعرية الخليلية!.. وكيف لا تكون الموسيقى جزءاً فاعلاً من محكيتِهِ الشعرية، حين تشكّل الموسيقى الفيصل بين لغة الشعر ولغة النثر؟!

   ولقد تخيّرنا عشراتٍ من "خماسيات حب" نضع بعضها في عُهدة قرائنا، كي يتحسّسوا تلك  الانسيابية الشعرية التي باتت من العلامات الفارقة، والتي تقصينا أبعادها، في فصيح شعره وفي محكيّه، عَبْرَ مقاربات خمس، من "شربل بعيني منارة الحرف"، عبوراً إلى دواوين: "أحبّكِ"، "مجانين"، "نجمة الشعر"، وانتهاءً بـ"خماسيات حب".. هذه المقاربات الخمس سلطت الضوء ساطعاً على "شربل بعيني بين الفصحى والعامية"، والتي سيضمُّها كتابٌ، سيصدر في (سيدني)، بهمة شاعرنا، في الآتي من الأيام.

   هي "خماسيات"، تُقرأ جهراً وليس همساً، فنتبين ذلك البُعد الفارق فيها: (خيّال/ عيديه/ تنّوره/ الله معك/ إمّك/ إحساس/ شو تاعبِك/ آخر حكي/ الجمعة العظيمه/ عيب استحي الخ...).

خاتمة: أمير المحكية لا يُنازعه على إمارتها مُنازع!

   إذا كنا، في بعض محطاتنا النقدية، قد توقفنا عند الجانب الإبداعي، من خطاب المحكية، لدى شاعرنا، فما ذلك إلا اقتناعاً بأن البعيني إرتقى بهذا الخطاب إلى مواقع قصِّية، فلم يُضاهِهِ أحدٌ من شعراء المحكية في المهجر الاسترالي. وما كانت بعض دواوينه، في المحكية، لتُترجم إلى لغات عالمية ( مثالنا: مُناجاة علي) لولا تلك السِمة الإنسانية التي تسِمُ تلك الدواوين، التي تتفلّت من حيِّز الأمكنة ومحدودية الأزمنة!

   أضف إلى ذلك طباعة دواوينه، لا سيما بالمحكية، لمراتٍ مُتعددة، وعلى سبيل المثال:" مراهقه"، ثماني طبعات، أولها 1968 وآخرها 2020/ "مجانين" ، لسبع مرات ، أولها 1976، وآخرها 2020/" الله ونقطة زيت"، لثلاث مرات، أولها 1988 وآخرها 2016 الخ..

   وإذْ يشهدُ شاهدٌ من أهل الأدب، فقد بعث إليه المحامي والأديب المغترب (استراليا) ميلاد اسحق برسالة (تاريخها 7 أيار 2020)، ومما جاء فيها: "غاص في ثنايا كتب الشعر والأدب معاً، وخاصة في الشعر العامي اللبناني، فأجاد وأبدع، فأصبح بدون مُنازع، أحد أهمّ شعراء العامية، في جميع أنحاء استراليا. كما أصبح منزله الكائن في سيدني محجّاً ومزاراً، يقصده رواد الشعر والأدب:.

   ولم يبقَ شعر البعيني بالمحكية دفين دواوينه فيقرأ بصمتٍ، بل جُهِرَ به من على المنابر، بصوتِهِ وبأصوات آخرين، وتجاوز إلى ميدان الغناء والتلحين! فها هي الفنانة المشتهرة ميرنا نعمة، تُغني له مؤخراً ، ومن وحي "الزمن الكوروني"، واحدةً من قصائده، مع مواكبة من "فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية"، ومما جاء في كلمات هذه القصيدة التي تعدّت إلى بلاد العالم: "على دلعونا وعلى دلعونا/ ما قتلنا حدا.. ليش حبستونا/ حكمتو هالدنيي بجندي وباروده/ ورجَّف إجريكن فيروس كورونا!".. علماً أن هذه الفنانة وسواها قد غنّوا للبعيني قصائد متعددة، وكانت "فيديوهات" انتشرت في استراليا وفي العديد من البلاد العربية وغير العربية!

   في زمن الرُخص والتسطّح والابتذال، لا سيما على جبهة الشعر، فصيحِهِ وعاميِّه.. وفي زمن العُهر، حيث تُخلع الألقاب على غير مستحقيها، من الشعارير (جمع شعرور، والشعرور تصغير شويعر!).. وفي زمن منح الدروع التكريمية، من كل فج عميق، لمن سمُّوا أنفسهم أو سُمّوا شعراء.. وفي زمن باتت شهادات التقدير، تُوزّع من قبل جمعيات ومنتديات وهمية، تتكاثر كالفِطر، كما يُوزّع "البونبون" في الأعراس والأفراح.. في هذا الزمن الرديء ما زال شربل بعيني قابضاً على شعره الحلال، قابضاً على محكيَّتِهِ ومصعِّداً بها إلى علّيين، كما المؤمن القابض على جمرِ دينه، في زمن الكُفر وبين كَفَرَة كفرة! 

   "ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشَغَلَ الناس!" ... استميحُ ابن رشيق القيرواني عُذراً، فأذهبُ مُقايساً، لا أرتجي جزاءً ولا شكوراً: "ثم جاء شربل بعيني فملأ دُنيا الاغتراب وشغل الناس!".. أولم يقُلْ نزار قبّاني بإحدى رسائله لشربل بعيني- وقد أوردت ذلك في إحدى مقارباتي "البعينية"- بأن شربل بعيني قد دوّخ قارة أستراليا!؟ أجل! دوّخها بعظيم شعره، دوّخها بنتاجه الثرّ، فكان "طاحونة نشر كتب"، ودوّخها بحضوره الدائم، إذْ له "قِرصٌ" في كل عُرس، من أعراس الفكر والأدب في المغترب الاسترالي، وما وراء ذلك المُغترب!

الحواشي:

* - مقاربة لهذا الديوان "خماسيات حب" للشاعر شربل بعيني، صدر في سيدني (أستراليا)، طبعة ثانية 2020، الغلاف والرسوم الداخلية للفنانة رندى بعيني.

  - ابن حزم، "طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاّف"، تحقيق إحسان عباس، صادر عن جريدة السفير (لبنان)، في سلسلة "الكتاب للجميع"، رقم 9، دار المدى للثقافة والنشر، 2002، ص ص : 11 و 16 و 17).

2 - راجع، ابن حزم، مرجع سابق، ص ص : 23 – 30. 

3- راجع، ابن حزم، مرجع سابق، ص 53.

4 - راجع، مقدمة "طوق الحمامة" مرجع سابق، ص 9.

5 - راجع ابن حزم، مرجع سابق، ص 65.

6 - راجع ابن حزم، مرجع سابق، ص 67.

7 - الشيخ النفزاوي، "الروض العاطر في نُزهةِ الخاطِر" ، تحقيق جمال جُمعة، رياض الريّس للكتب والنشر، لندن، طبعة ثانية، 1993، ص 24.

8- راجع، ابن حزم، مرجع سابق، ص ص : 136 و149.

9 - منقول من صفحة شربل بعيني على الفايسبوك، الدخول إلى الصفحة في 18/5/2020.

**